U3F1ZWV6ZTMwMDMxMjcyMzQ2MzYwX0ZyZWUxODk0NjMyMzQyNjAxMw==

الليرة السورية بين مكاسب ما بعد التحرير وتحديات الاستقرار الاقتصادي

شهدت الليرة السورية خلال الأشهر التي تلت مرحلة التحرير قفزة لافتة أعادت إليها جزءاً واسعاً من قيمتها التي كانت قد فقدتها في سنوات الحكم السابق، حيث سجلت صعوداً قُدّر بنحو 65 بالمئة بعد أن وصلت إلى أحد أدنى مستوياتها قبيل سقوط النظام المخلوع. فخلال تلك الفترة، وصل سعر الدولار إلى قرابة 23 ألف ليرة، قبل أن يتراجع بشكل حاد بعد التحرير إلى أقل من ثمانية آلاف ليرة، ثم يستقر تدريجياً حول حدود 12 ألف ليرة للدولار، وسط ظروف اقتصادية وسياسية متغيرة أحدثت أثراً مباشراً على سوق الصرف.

يرى خبراء الاقتصاد أن التحسّن الأخير لم يكن مجرد ردة فعل مؤقتة، بل نتيجة لمناخ سياسي جديد فتح المجال أمام إجراءات نقدية كانت مجمّدة لسنوات طويلة. الدكتور نهاد حيدر، أستاذ العلوم المالية والمصرفية في جامعة القلمون، أوضح أن التغيّر السياسي الذي رافق المرحلة الانتقالية خلق حالة من الثقة داخل السوق، خففت من الطلب على العملات الأجنبية وقلصت حدّة المضاربات التي كانت تضغط بشدة على سعر الصرف. وأشار إلى أن استعادة المصرف المركزي لدوره سمحت بإنهاء تعدد أسعار الصرف، وتنشيط قنوات مصرفية كانت شبه معطلة، الأمر الذي ضيّق الفجوة مع السوق الموازية وعزّز حضور الليرة في المعاملات اليومية.

ساهمت إعادة تفعيل البنوك المحلية وتوفير السيولة بالعملة الوطنية في إعادة التوازن إلى السوق بعد سنوات من ندرة النقد المحلي، وهي ظروف دفعت كثيراً من السوريين سابقاً إلى استخدام الدولار في تعاملاتهم. كما أدّت عودة جزء من النشاط التجاري الداخلي والخارجي، ولو بحدود واضحة، إلى تحسين الحركة الاقتصادية وتقليل الضغط على الواردات، في وقت شهد فيه التضخم تراجعاً كبيراً من مستويات قاسية بلغت 117 بالمئة عام 2023 إلى نحو 36.8 بالمئة بعد عام 2024، وفق تقديرات صادرة خلال الفترة الأخيرة.

وتشير المعطيات إلى أن مصرف سوريا المركزي حقق تقدماً في ضبط السيولة وتعديل السعر الرسمي، فيما تحدث حاكم المصرف عبد القادر الحصرية عن تحسّن في قيمة الليرة بنحو 35 بالمئة مقارنة بما قبل الإصلاحات، وهي خطوة رآها اقتصاديون دليلاً على فعالية الإجراءات الهيكلية والنقدية التي تم اعتمادها. كما ساهم تفعيل بنوك المراسلة وتسهيل المدفوعات الخارجية في تحسين تدفق السيولة وعودة جزء من التعاملات المصرفية إلى مسارها الطبيعي.

تراجع معدلات التضخم كان أحد أبرز النتائج المرافقة لتحسن سعر الصرف، إذ هبط المعدل السنوي للفترة الممتدة بين شباط 2024 وكانون الثاني 2025 إلى 46.7 بالمئة مقارنة بـ119.7 بالمئة في الفترة السابقة، بينما استقر تضخم كانون الثاني 2025 عند نحو 6.4 بالمئة. هذا الانخفاض عُد مؤشراً واضحاً على انتظام حركة السلع وعودة الأسواق إلى نشاط أكثر سلاسة، ما أعطى الليرة قدرة أكبر على استعادة جزء من قيمتها الشرائية.

يشير الخبراء كذلك إلى أن الانفتاح الاقتصادي الذي تلا سقوط النظام المخلوع لعب دوراً محورياً في تنشيط التحويلات والتعاملات الخارجية، وهو ما رفع مستوى الثقة لدى المواطنين وزاد من الإقبال على الليرة بدلاً من اكتناز الدولار. كما أن إعادة تشغيل المصانع وفتح الأسواق خفّف الضغط على الاستيراد وخفّض الطلب على العملات الأجنبية، ما ساعد في تثبيت سعر الصرف وتقليل التذبذب الذي كان سمة المرحلة السابقة.

ورغم التطورات الإيجابية، تبقى استدامة التحسن مرتبطة بمعالجة نقاط ضعف جوهرية، أبرزها محدودية الاحتياطيات الأجنبية، واستمرار الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي، وضعف البنية الإنتاجية التي ما زالت تعتمد على الواردات. ويؤكد الدكتور حيدر أن استمرار الاستقرار بحاجة إلى إصلاحات هيكلية واسعة، تشمل بناء قاعدة إنتاج محلية قادرة على توليد النقد الأجنبي، وتنويع مصادر الدخل، وتعزيز الشفافية في البيانات الاقتصادية، بما يسمح بترسيخ الثقة واستقرار سعر الصرف على المدى الطويل.

ويرى مختصون أن السياسة المالية مطالبة بدعم الإنتاج المحلي وتشغيل المصانع والمزارع، وتحسين بيئة الاستثمار، بهدف تقليل الاعتماد على الواردات وزيادة المعروض من السلع، إلى جانب ضرورة إدارة أفضل لاحتياطيات النقد الأجنبي وتفعيل أدوات السياسة النقدية للحد من التقلبات. كما يشددون على أهمية تحويلات السوريين في الخارج، والاستفادة منها كمصدر مستقر للدعم النقدي، مع تطوير الدفع الإلكتروني وتنشيط القنوات المصرفية.

ويخلص الاقتصاديون إلى أن ارتفاع قيمة الليرة بعد التحرير يمثل خطوة مهمة في مسار التعافي، لكنه يظل مشروطاً بإصلاحات جذرية تمنح الاقتصاد القدرة على توليد الثروة وتقوية العملة بعيداً عن الحلول الظرفية. فالاستقرار الحقيقي لن يتحقق إلا عبر بناء اقتصاد منتج، قادر على مواجهة الضغوط الخارجية وتحقيق توازن مستدام في سوق الصرف، بما يعيد لليرة مكانتها ويمنح السوريين فرصة لاستعادة قوة الشرائية التي فقدوها في سنوات طويلة من الاضطراب.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة